الأحد، 31 مارس 2024

وقفات مع انقضاء رمضان






وقفات مع انقضاء رمضان

 

الوقفةُ الأوُلى:

وقفةُ محاسَبةٍ ومراجعةٌ للنَّفسِ: ها هُوَ شهرُ رمضانَ شهرُ الخيراتِ والبركاتِ والعِتقِ مِنَ النيرانِ، ها هُوَ قد تولّى وانْصَرَمَ، وحَرِيٌّ بِكُلِّ عاقِلٍ يَهُمُّهُ مُستقبلَهُ أنْ يَقِفَ وقفةَ مُحاسَبةٍ: ماذا أوْدَعَ رمضانَ؟ وماذا استودعَهُ مِنْ أعمالٍ؟

 

مَن فرّطَ فيه وقصّرَ، مَن رَبِحَ وغَنِمَ، ومَن غُبِنَ وخَسِرَ؟

 

قَالَ ابنُ رجبٍ رحِمَهُ اللهُ: رُويَ عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ كَانَ يُنادي في آخِرِ ليلةٍ مِنْ شهرِ رمضانَ: يا ليتَ شِعري! مَنْ هذا المقبولُ فَنُهَنّيه، ومَنْ هذا المحرومُ فَنُعَزّيه.

 

وعنْ ابنِ مسعودٍ أنَّهُ كَانَ يقولُ: مَن هذا المقبولُ مِنّا فَنُهَنّيه، ومَنْ هذا المحرومُ مِنّا فَنُعَزّيه.


أيُّها المقبولُ هنيئا لكَ، أيُّها المردودُ جبرَ اللهُ مُصيبتَكَ.

ليتَ شِعري مَن فيهِ يُقْبَلُ مِنا***فيُهَنّأ، يا خيبةَ المردودِ

 

قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِسَلَمَةَ بنِ دينارٍ: عِظْنِي يَا أَبَا حَازِمٍ، قَالَ: اضْطَجِعْ ثُمَّ اجْعَلِ الْمَوْتَ عِنْدَ رَأْسِكَ، ثُمَّ انْظُرْ مَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ تِلْكَ السَّاعَةَ فَخُذْ فِيهِ الْآنَ، وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِيكَ تِلْكَ السَّاعَةَ فَدَعْهُ الآنَ.

 

وكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى عُمَرَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ طُولَ الْبَقَاءِ إِلَى فَنَاءٍ مَا هُوَ؟ فَخُذْ مِنْ فَنَائِكَ الَّذِي لا يَبْقَى لِبَقَائِكَ الَّذِي لا يَفْنَى، وَالسَّلامُ، فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الْكِتَابَ بَكَى وَقَالَ: نَصَحَ أَبُو سَعِيدٍ وَأَوْجَزَ.

 

دَخَلَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ لَهُ: عِظْنِي يَا سَابِقُ وَأَوْجِزْ، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْلُغُ إِنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ: هَاتِ، فَأَنْشَدَهُ

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ الْتَقَى 
وَوَافَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا 
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُونَ شَرَكْتَه 
وَأَرْصَدْتَ قَبْلَ الْمَوْتِ مَا كَانَ أَرْصَدَا 

 

فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى سَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.

أيُّها المفرِّطُ دونَكَ الخواتيمُ؛ فأحسِنْ، فالعِبْرَةُ بالخواتيمِ.

 

قَالَ الفُضيلُ بنُ عياضٍ لِرَجُلٍ: كم أتتْ عليكَ؟ (يعني كم مضى مِنْ عُمُرِكَ)

قَالَ: ستونَ سنةٍ.

قَالَ: فأنتَ مُنذُ ستين سنةٍ تسيرُ إلى ربِّكَ. توشِكُ أنْ تبْلُغَ.

فقَالَ الرَّجُلُ: يا أبا عليٍّ إنا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعون.

قَالَ له الفُضيلُ: تَعْلَمُ ما تقولُ؟

قَالَ الرَّجُلُ: قلتُ: إنا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعون.

قَالَ الفُضيلُ: تَعْلَمُ ما تَفْسيرُه؟

قَالَ الرَّجُلُ: فسِّرْهُ لنا يا أبا عليّ.

 

قَالَ: قولُكَ إنَّا للهِ تقولُ أنَا للهِ عبدٌ وأنا إلى اللهِ راجِعٌ. فمَنْ عَلِمَ أنَّهُ عبدُ اللهِ وأنَّهُ إليهِ راجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ بِأنَّهُ موقوفٌ، ومَنْ عَلِمَ بأنَّهُ موقوفٌ فَلْيَعْلَمْ بِأنَّهُ مسئولٌ، ومَن عَلِمَ أنَّهُ مسئولٌ فَلْيُعِدَّ للسؤالِ جوابا.

فقَالَ الرجل: فما الحيلةُ؟

قَالَ: يسيرةٌ.

قَالَ: ما هيَ؟

قَالَ تُحسِنُ فيما بقي يُغفرُ لك ما مضى وما بَقيَ. فإنكَ إنْ أسأتَ فيما بَقيَ أُخِذتَ بما مضى وما بَقِي.

 

واعلموا إخواني أنَّكُم اليومَ في دارِ عَمَلٍ، وأنَّ بابَ التوبةِ مَفتوحٌ.. فأحْسِنوا يُحْسِنِ اللهُ إليكُم؛ لأنَّ الجزاءَ مِنْ جِنسِ العملِ، ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.

 

الوقفةُ الثانيةُ:

مَنْ وُفِّقَ للعَمَلِ فليَعْلَمْ أنَّ ما يَتْبَعُ العَملَ لا يقلُّ أهميةً عنْ العَمَلِ، وهُما أمْرانِ:

الأمْرُ الأوّلُ: قبولُ العملِ، وهذا مِمَّا أهمَّ سَلَفُ هذه الأمةِ وأقضَّ مضاجِعَ الصالحينَ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: " لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لا تُقْبَلَ مِنْهُمْ.

 

وفي روايةٍ: وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ. رواهُ الترمذيُّ وابنُ ماجَه، وصحَّحَهُ الألبانيُّ.

 

وخليلُ اللهِ إبراهيمُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا بنى الكعبةَ أهمَّهُ قُبُولُ عَمَلِهِ فنادى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ﴾.

 

قَالَ ابنُ عبدُ البَرِّ: الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ أَشَدُّ خَوْفًا لِلَّهِ وَأَكْثَرُ إِشْفَاقًا وَوَجَلا. اهـ.

 

وقَالَ ابنُ حَجَرٍ: وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي عُثْمَانَ الْجِيزِيِّ: مِنْ عَلامَةِ السَّعَادَةِ أَنْ تُطِيعَ وَتَخَافَ أَنْ لا تُقْبَلَ، وَمِنْ عَلامَةِ الشَّقَاءِ أَنْ تَعْصِيَ وترجوَ أَنْ تنجو. اهـ.

 

الأمْرُ الثاني: المحافظةُ على حسناتِ العَمَلِ، فالعبرةُ بالمحافظةِ على حسناتِ العمَلِ أكبرُ مِنَ العِبْرةِ بالعَمَلِ، فقدْ قيلَ للنَّبيِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إنَّ فُلانةً تَصُومُ النَّهارَ، وتَقُومُ الليلَ، وتَفعلُ، وتَتصَّدَّقُ، وتُؤذي جِيرانَها بِلِسَانِها. فقَالَ: لا خَيرَ فيها، هِيَ في النَّارِ. قيلَ: فإنَّ فَلانةً تُصَلِّي المكتوبةَ، وتَصومُ رمضانَ، وتَتَصَدَّقُ بأثْوارٍ مِن أقِطٍ، ولا تؤذي أحَدًا بِلِسَانِها. قَالَ: هِيَ في الجَنَّةِ. رواهُ الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في " الأدبِ الْمُفْرَدِ " والحاكِمُ – وصحَّحَهُ.

 

عبادَ اللهِ:

علامةُ قبولِ الحسنةِ إتْبَاعُها بِحسنةٍ مِثلِها.

ولَمّا كَانَ صيامُ رمضانَ حَسنةٌ عظيمةٌ أُتْبِعَ بِحسناتٍ أُخرى، وهي صَدَقةُ الفِطْرِ، ثمَّ أُتْبِع بِحسنةٍ أخْرى، وهي التكبيرُ..

 

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

 

ثم أُتْبِعتْ تِلكَ الحسناتُ بِصيامِ سِتةِ أيامٍ مِن شوّالٍ، ليَكْمُلَ الأجْرُ وتَتِّمَ الفضائلُ وتَعظُمَ الحسناتُ.

 

قَالَ ابنُ القيِّمِ: وَعَلامَةُ قَبُولِ عَمَلِكَ: احْتِقَارُهُ وَاسْتِقْلالُهُ، وَصِغَرُهُ فِي قَلْبِكَ. حَتَّى إِنَّ الْعَارِفَ لَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عُقَيْبَ طَاعَتِهِ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلاةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثَلاثًا.

 

وَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ الْحَجِّ. وَمَدَحَهُمْ عَلَى الاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ قِيَامِ اللَّيْلِ. اهـ.

 

وقَالَ ابنُ رَجَبٍ: علامةُ قبولِ الطَّاعةِ أنْ تُوصَلَ بطاعةٍ بَعدَها، وعلامةُ ردِّها أنْ تُوصَلَ بِمعصيةٍ. ما أحْسَنَ الحسنةَ بعدَ الحسنةِ، وأقبحَ السيئةَ بعدَ الحَسَنَةِ. اهـ.

 

عبادَ اللهِ:

ها قدْ ذُقْتُم حلاوةَ الصِّيامِ والقِيامِ، فَلنَحْرِصْ أنْ لا نَرجِعَ على الأعقابِ.. فقدْ كَانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يستعيذُ باللهِ مِن الرُّجوعِ على الأعقابِ، فَكَانَ رسولُ اللهِ إذا سافَرَ يتعوَّذُ مِنْ وعثاءِ السَّفَرِ، وكآبةِ الْمُنقلبِ، والْحَوْرِ بعدَ الكَونِ، ودعوةِ المظلومِ، وسوءِ الْمَنظرِ في الأهلِ والمالِ. رواهُ مُسْلِمُ.

 

وفي بعضِ الرواياتِ وبعضِ النُّسَخِ: ومِنْ الْحَوْرِ بعد الكَوْرِ.

 

قَالَ الترمذيُّ: هو الرُّجوعُ مِنَ الإيمانِ إلى الكُفْرِ أو مِنَ الطاعةِ إلى المعصيةِ، إنَّمَا يعني: الرُّجوعُ مِن شيءٍ إلى شيءٍ مِنَ الشَّرِّ. اهـ.

 

عبادَ اللهِ:

تابِعُوا الأعمالَ الصالحةَ.

قَالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنَّ في الجَنَّةِ غُرُفا يُرى ظُهورُها مِنْ بُطونِها وبُطونُها مِنْ ظُهورِها. فقامَ أعرابيٌّ فقَالَ: لِمَنْ هيَ يا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أطابَ الكلامَ، وأطْعَمَ الطَّعامَ، وأدَامَ الصِّيامَ، وصلَّى للهِ بالليلِ والنَّاسُ نيامُ. رَواهُ أحمدُ والتِّرمذيُّ وأبو يعلى. وهُوَ حديثٌ حَسَنٌ.


فَلئنْ تقضّى شَهْرُ الصيامِ، فقد بَقِيَ الصِّيامُ

وإنِ انقضى شَهْرُ القيامِ، فإنَّ القيامَ باقٍ.

واعلموا أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ كَثيرةٌ مَيسورةٌ لِمَنْ يسَّرها اللهُ عليه، يَنْهَلُ مِنْها الموفَّقُ

 

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن سَلامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: يَا أيُّها النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلامٍ. رواهُ الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ وابنُ ماجَه، وصحَّحَهُ الألبانيُّ والأرنؤوط.

 

الوقفةُ الثالثةُ:

شَهرُ رمضانَ شَهرُ البَذْلِ والإحْسَانِ.

فأدّوا زكاةَ أموالِكِم، طيبة بها أنْفُسكُم، ولا يجوزُ تأخيرُ الزكاةِ عنْ وقتِ حُلُولِها، فإذا حالَ الحولُ على المالِ وَجبَ إخراجُ الزَّكاةِ، ولا يَجوزُ أنْ تُؤخّرَ الزَّكاةُ عنْ وقتِها إلى رمضانَ، ويَجوزُ تقديمُ الزَّكاةِ وتعجيلُها.

 

فإذا كَانَ تمامُ حَولِها في شَهْرِ شوال مثلا، جازَ تَقديِمُها إلى رمضانَ، وإذا كَانَ تمامُ حولِها في شعبانَ، فلا يجوزُ تأخيرُها إلى رمضانَ.

 

واعلموا أنَّ الزكاةَ والصَّدقةَ بَرَكَةٌ في المالِ والعُمُرِ والوَلَدِ.

 

والإنفاقُ أعَمُّ مِنْ أنْ يكَونَ في المالِ، فقدْ كَانَ الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم إذا لم يَجِدْ أحدُهُم ما يتصدَّقُ به تصدَّقَ على مَنْ ظلَمَهُ بالعَفُوِ عَنْه.

 

قَالَ قَتَادَةُ: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ، كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ. رواهُ أبو داودَ.

 

وكَانَ الصحابةُ يُنفِقُونَ بِحسَبِ وُسْعِهِم.

قَالَ أبو ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قَالَ: الإيمانُ باللهِ، والجهادُ في سبيلِهِ. قَالَ: قُلتُ: أيُّ الرِّقابِ أفضَلُ؟ قَالَ: أنْفَسُها عِنْدَ أهلِها، وأكثرُها ثمنًا. قَالَ: قلتُ: فإنْ لمْ أفْعَلْ؟ قَالَ: تُعينُ صانِعًا، أو تَصْنعُ لأخْرَقٍ. قَالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ العَمَلِ؟ قَالَ: تكفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ، فإنَّها صدقَةٌ مِنْكَ على نَفْسِكَ. رواهُ البخاريُّ ومُسلِمُ.

 

بل كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُم إذا لم يِجِدْ ما يتصدَّقُ به تصدّقَ بِعِرْضِهِ، وحَلَّلَ مَنْ وَقَعَ في عِرْضِهِ بِغيبةٍ أو بُهتانٍ.

 

وجاءَ في سيرةِ عُلبةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ خَرَجَ مِنَ الليلِ فصلَّى وبَكى، وقَالَ: اللهمَّ إنَّكَ قد أمَرْتَ بالجهادِ، ورغّبتَ فيه، ولم تَجْعلْ عندي ما أتقوّى به معَ رسولِكَ، وإنِّي أتصدقُ على كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أصَابَني بها في جَسَدٍ أو عِرْضٍ.

 

ولَمَّا حَضَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على الصدقةِ جاءَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُم بِطاقَتِهِ وما عِندَه. فقَالَ عُلبةُ بِنُ زيدٍ: اللهمَّ أنَّهُ ليسَ عندي ما أتَصدَّقُ به. اللهمَّ إنِّي أتصدَّقُ بِعرْضِي على مَنْ نَالَهُ مِنْ خَلْقِكَ.

 

فأمَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مناديا فنادى: أينَ المتصدقُ بِعِرْضِهِ البَارِحَةَ؟ فقامَ عُلبةُ، فقَالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: قد قُبِلتْ مِنكَ صَدَقَتُك. وفي روايةٍ أنَّهُ قَالَ: ولكني أتَصَدَّقُ بِعِرْضِي، مَنْ آذاني أو شَتَمَنِي أو لَمَزَنِي فَهُوَ لَهُ حِلٌّ. رواهُ البيهقيُّ في " شُعبِ الإيمانِ "، وابنُ مِرْدَوَيْه والخطيبُ البغداديُّ وغَيرُهُم. وصحَّحَ ابنُ حَجَرٍ إسنادَ هذهِ القِصَّةِ.

 

قَالَ ابنُ حَجَرٍ: رَوى ابنُ عيينةَ عَنْ عمرو بِنِ دينارٍ عنْ أبي صالِحٍ عَنْ أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلا مِنَ الْمُسلمينَ قَالَ: اللهمَّ أنَّهُ ليسَ لي مَالٌ قَالَ أتَصدَّقُ بِهِ وإنِّي قدْ جَعَلتُ عِرْضِي صَدقَةً للهِ عزَّ وجَلَّ لِمَنْ أصَابَ مِنْهُ شيئا مِنَ الْمُسلمينَ. قَالَ: فأوْجَبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قد غُفِر لَهُ، أظُنُّهُ أبا ضَمْضَمٍ الْمَذكورَ، فاللهُ أعلَمُ. اهـ.

 

وأبوابُ الصَّدَقَةِ كثيرةٌ مَيْسورةٌ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ. رواه البخاري في " الأدب المفرد " والترمذي وابن حبان، وصححه الألباني.

 

الوقفةُ الرَّابِعةُ:

أنَّ أسبابَ المغفرةِ قَريبةٌ، وأسبابَ العذابِ كَذَلِكَ، ولِذا قَالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ. رواهُ البخاريُّ.

 

وأخبَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ اللهَ غَفَرَ لامرأةٍ بَغيٍّ سَقَتْ كَلبا يَلهثُ مِنَ العَطَشِ. كما في الصحيحينِ

 

وأنَّه تعالى غَفَر لِرَجُلٍ أبْعَدَ غُصْنَ شوكٍ عَنِ الطَّريقِ.

 

ففي الصحيحينِ مِنْ حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.

 

قَالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ نَزْعَ الأَذَى مِنَ الطُّرُقِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ، وَتُوجِبُ الْغُفْرَانَ وَالْحَسَنَاتِ، وَلا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْتَقِرَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَرُبَّمَا غُفِرَ لَهُ بِأَقَلِّهَا أَلا تَرَى إِلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ شَكَرَ لَهُ إِذْ نَزَعَ غُصْنَ الشَّوْكِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَغَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ؟ وَقَدْ قَالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، إِحْدَاهَا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ. وَقَالَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾، وَقَالَ الحكيم: ومتى تفعل الكثير من الخير... إِذَا كُنْتَ تَارِكًا لأَقَلِّهِ. اهـ.

 

الوقفةُ الخامِسةُ:

أنَّ اللهَ عزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لِعِبادِهِ زكاةَ الفِطْرِ مِنَ رمضانَ

وفي فتاوى اللجنَةِ الدَّائمةِ:

مقدارُ زكاةِ الفِطْرِ عنِ الفَردِ ثلاثةُ كيلو تقريبا منَ الأرُزِّ أو غيرِهِ مِنْ قوتِ البَلَدِ.

 

وقَالَ شيخُنا الجبرينُ رحِمَهُ اللهُ:

الصاعُ معروفٌ، وهَوَ أربعةُ أمدادٍ، والْمُدُّ مِنَ البُرِّ مِلءُ الكفينِ المتوسطينِ مجموعتينِ، وقُدِّرَ الصَّاعُ بِأنَّهُ خمسةُ أرطالٍ وثُلثٍ بالعراقي، والصاعُ معروفٌ في هذهِ البِلادِ، وهوَ معَ العِلاوةِ يُقارِبُ ثلاثَ كيلو، وبدونِ علاوةٍ نَحوَ كيلوين ونِصف، والاحتياطُ إكمالُ الثلاثةِ. اهـ.

 

وهِيَ صاعٌ مِن طَعَامٍ مِنْ قُوتِ البَلَدِ.

 

ففي حَديثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. رواه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.

 

قَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَمَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ. رواهُ البخاريُّ ومُسْلِمٌ.

 

وفي حديث أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. رواه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.

 

وتَجِبُ على مَنْ يَجِدُ زيادةً عَنْ قُوتِ يومِه.

 

قَالَ ابنُ قُدامةَ: وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ عِيَالِهِ، إذَا كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ.

 

عِيَالُ الإِنْسَانِ: مَنْ يَعُولُهُ. أَيْ: يَمُونُهُ فَتَلْزَمُهُ فِطْرَتُهُمْ، كَمَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ، إذَا وَجَدَ مَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ وَعَبْدٍ، مِمَّنْ تَمُونُونَ. اهـ.

 

ويُستَحَبُّ أنْ تُخرَجَ عنِ الجنينِ، ولا تَجِبُ عَنْهُ.

 

ويَرى العلماءُ أنَّ زكاةَ الفِطْرِ تابعةٌ للجَسَدِ، فتُخرَجُ حيثُ يَكونُ الشَّخْصُ، ويجوزُ إخراجُها في غَيْرِ بَلَدِ الشَّخْصِ، إذا دَعَتِ الحاجةُ، أو سافَرَ ووكَّلَ غَيرَهُ.

 

ولا يُجزئُ دَفْعُ الْمَالِ في زَكَاةِ الفِطْرِ، إلاّ لِمَنْ يقُومُ مقامَهُ ويكونُ وكيلا عَنْهُ في إخراجِها.

 

قَالَ أَبو طَالِبٍ، قَالَ لِي أَحْمَدُ: لا يُعْطِي قِيمَتَهُ. قِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَأْخُذُ بِالْقِيمَةِ؟ قَالَ: يَدَعُونَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وَيَقُولُونَ قَالَ فُلانٌ! قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾.

وَقَالَ: قَوْمٌ يَرُدُّونَ السُّنَنَ: قَالَ فُلانٌ، قَالَ فُلانٌ.

 

ويَبْدأُ وقتُ جَوازِ إخراجِ زكاةِ الفِطْرِ قبْلَ العيدِ بيومٍ أو يومينِ، والأفضلُ أنْ تكونَ يومَ العيدِ قَبْلَ الخُرُوجِ لصلاةِ العِيدِ. ويَنتهي وقتُ إخراجِها بانتهاءِ صلاةِ العيدِ.

 

قَالَ نافع: وكَانَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما يُعْطِيها الذين يَقبلونَها، وكَانَوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيومٍ أو يومينِ. رواهُ البخاريُّ.

 

ومَنْ أخّرَها فَعَليهِ إخراجُها، وهُوَ آثِمٌ بِتَأخِيرِها عَنْ وقتِها إذا أخَّرَها لغيرِ عُذْرٍ.

 

وفي فتاوى اللجنةِ الدَّائمةِ للبحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ في المملكةِ: إذا أخَّرَ الشَّخصُ زكاةَ الفِطْرِ عَنْ وقْتِها وهُوَ ذاكِرٌ لها أثِمَ وعليه التوبةُ إلى اللهِ والقضاءُ؛ لأنَّها عبادةٌ فَلَمْ تَسقُطْ بِخروجِ الوقتِ كالصلاةِ. اهـ.

 

ولا يُعطَى الكافِرُ مِنْ زكاةِ الفِطْرِ ولا مِنْ زكاةِ المالِ إلاّ إذا كَانَ مِنَ المؤلَّفَةِ قلوبِهِم فيُعطَى مِنْ زكاةِ الْمَالِ.

 

قَالَ ابنُ قُدامةَ: وَلا يُعْطَى الْكَافِرُ مِنْ الزَّكَاةِ، إلاَّ لِكَوْنِهِ مُؤَلَّفًا.

وقَالَ شيخُنا العثيمينُ: ولا يُعْطَى الكَافِرُ.

 

والدليلُ على أنَّ الكافِرَ لا يُعْطَى مِنَ الكفَّارةِ القياسُ على الزكاةِ، فإنَّ الكَافِرَ لا يُعْطَى مِنَ الزكاةِ إلاَّ إذا كَانَ مؤلَّفًا، ولذلك قاسَ العلماءُ الإطعامُ على الزكاةِ، وقَالَوا: إنَّ الكُفّارَ ليسوا أهلًا، والمسألةُ فيها شيءٌ مِن التأمُّلِ. اهـ.

 

وقَالَ شيخُنا الجبرينُ: لا يُعْطَى الكافِرُ مِنْ زكاةِ الفِطْرِ، ولا مِنْ زكاةِ المالِ، ولا مِنْ صدقاتِ التَّبرُّعِ، فإنه قد اختارَ الكُفرَ وهَجَرَ الإسلامَ، فهو عدوٌ للمسلمينَ، فلا حَقٌ له في صدقاتِهِم وأموالِهِم، بل يصرِفونَها للمسلمينَ، لقوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾. اهـ.

 

الوقفةُ السَّادِسَةُ والأخيرةُ:

الحِرصُ على شُهودِ صلاةِ العيدِ، وهي سُنَّةٌ مُؤكَّدَةٌ، وقَدْ قَالَ بِوُجُوبِها بعضُ عُلمائنا.

ولا تُشْرَعُ الصَّلاةُ قَبلَها ولا بَعدَها إذا صُلِّيَتْ صَلاةُ العيدِ في المصلَّى.

 

قَالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا. رواه البخاريُّ ومُسلِمٌ.

 

وفي روايةِ ابنِ ماجَه: خَرَجَ فَصَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا.

 

وقَدْ أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بِحضورِ صلاةِ العيدِ حتى مَنْ لا تُصلِّي، فقَالَ: لِيَخْرُجِ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الخُدُورِ وَالْحُيَّضُ، وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى، وَلْيَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ. رواه البخاريُّ ومُسلِمٌ.

 

والسُّنَّةُ أنْ يأكُلَ تمراتٍ وِتْرا قَبْلَ خروجِهِ إلى الصلاةِ.

 

ففي حديثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ. وفي روايةٍ: وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا.

 

ويَذْهبُ مِنْ طريقٍ ويَرجِعُ مِنْ أُخْرى.

ففي حديثِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ.



عبدالرحمن السحيم 

الصيام الذي يُريده الله

 


الصيام الذي يُريده الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.

 

ولَمَّا بيَّن الله عزّ وَجَلّ أحكام الصيام خَتَم الآية بِقوله: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.

 

فالْهَدَف الأسمى مِن الصيام: تحقيق العبودية لله عزّ وَجَلّ، وتحقيق التقوى.

 

والتقوى – كما قال عمر بن عبد العزيز -: ليست التقوى قيامَ الليل، وصِيام النهار، والتخليطَ فيما بَيْنَ ذلك، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله، وترك ما حرَّم الله، فإنْ كان مع ذلك عملٌ، فهو خير إلى خير.

 

وذَكَر ابن رجب رحمه الله كلام القوم في التقوى، ثم قال:

وحاصل كلامهم يدلُّ على أنَّ اجتناب المحرمات - وإنْ قَلَّتْ - فهي أفضلُ مِن الإكثار مِن نوافل الطاعات، فإنَّ ذلك فرضٌ، وهذا نفلٌ. اهـ.

 

إن اجتناب الْمُحرَّمات مَطْلَب شَرْعيّ، وليس لأحدٍ عُذر في ارتكاب ما حرَّم الله عزّ وَجَلّ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. رواه البخاري ومسلم.

 

فَمَا صامَ مَن لم تَصُم جوارحه..

ما صام مَن أطلق لِسانه يَفْرِي في أعراض عِباد الله..

وأطْلَق بَصَره في عيوب الناس وعوراتهم.. وقَلَّب ناظِريه في المناظِر الْمُحرَّمة..

وأرخَى سَمْعه يَسمع به ما حَرَّم الله..

وما صام مَن لم يترُك ما حرَّم الله في ليل رمضان ونهاره..

وما صام مَن أكل الربا..

وما صام مَن أكل حقوق الناس..

وما صام مَن ظَلَم الناس وبَهَتَهم.

وما صام مَن أضاع ساعات عُمره على القنوات الفضائية..

وما صام مَن غشّ الناس..

وما صام مَن كذب وغَدَر وخَان..

وما صام مَن حَلَف كاذبا.. أو شَهِد الزور..

وما صام مَن لم يصُم عن التدخين، وأشدّ منه مَن لم يَصُم عن الْمُخدَّرات والْمُسْكِرات..

وكثير مِن هؤلاء نَصيبهم مِن صيامهم هو الجوع والعطش!

 

وفي الحديث: « رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ »؛ رواه الإمام أحمد، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده جيد. وقال المنذري: رواه الطبراني في الكبير وإسناده لا بأس به. وصححه الألباني.

 

وهؤلاء غَفَلُوا عن حِكْمة الصيام.. وظنّوا أن المقصود هو الامتناع عن الطعام والشَّرَاب!

 

والله عزّ وَجَلّ غنيّ عن تعذيب العباد لأنفسهم.. فليس هذا هو المقصود.. إنما مِن المقصود أن تَسْمُو النفس وتَزْكُو.. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. رواه البخاري.

 

قال ابن القيم: الصائم هو الذي صامَتْ جَوارحه عن الآثام، ولِسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبَطنه عن الطعام والشراب، وفَرْجه عن الرَّفث؛ فإن تكلّم لم يَتَكلَّم بِمَا يَجرح صَومه، وإن فَعل لم يفعل ما يُفسد صومه؛ فيَخرج كلامه كله نافعا صالحا وكذلك أعماله، فهي بِمَنْزِلة الرائحة التي يَشمّها مَن جالَس حامِل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأمِن فيها مِن الزور والكذب والفجور والظلم. هذا هو الصوم المشروع لا مُجرد الإمساك عن الطعام والشراب، ففي الحديث الصحيح: " مَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه "، وفي الحديث: " رُبّ صائم حَظّه مِن صيامه الجوع والعطش ".

 

فالصوم هو صَوم الجوارح عن الآثام، وصَوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يَقطعه ويُفسِده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتُفسد ثَمرته فتُصيِّره بِمَنْزِلة مَن لم يَصُم. اهـ.

 

1 / رمضان / 1431 هـ

عبدالرحمن السحيم رحمه الله


الجمعة، 22 مارس 2024

مقاطع مميزة عن رمضان ...


 


💎 مقاطع مميزة عن رمضان ...


♻️ للشيخ محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله-


{❶}- أسعد الناس في رمضان ...

http://goo.gl/vIGLhb

{❷}- رمضان وعزيمة الرجال ...

http://goo.gl/qhJ2YY

{❸}- رمضان والشعور العجيب ...

http://goo.gl/se1kSL

{❹}- استشعار فوات الفرصة ...

http://goo.gl/PRZYaT

{❺}- أعظم مايوفق له العبد في رمضان ...

http://goo.gl/JvhM6f

{❻}- فتور في رمضان ...

http://goo.gl/PHxHT9

{❼}- رمضان وإعادة النظر في القول والفعل ...

http://goo.gl/lEC5xw

{❽}- معينات التعبد في رمضان ...

http://goo.gl/E26Nvr

{❾}- الصيام الگامل والناقص ...

http://goo.gl/doWi0R

{⓫}- لمن أراد الإعتگاف ...

http://goo.gl/YWUPxm

{⓬}- ماذٱ بعد رمضان ...

http://goo.gl/c1ospK

{⑬}- استشعار نعم الله في رمضان ...

http://goo.gl/K0xeb1

{⑭}- قرب ينبغي للمعتكف الاشتغال بها ...

http://goo.gl/XaGWqK

{⑮}- مدرسة الإعتكاف ...

http://goo.gl/uUSlsq

{⑯}- دروس من مدرسة الصيام ...

http://goo.gl/o3LggT

{⑰}- للصائم فرحتان ... 

http://goo.gl/qKjHHt


.

.

الأربعاء، 13 مارس 2024

كيف تكسب ليلة القدر؟

 







كيف تكسب ليلة القدر؟


د. لطيفة بنت عبد الله الجلعود


 

الحمد لله الذي فرض صيام هذا الشهر وسنَّ لنا قيامه، والصلاة على خيرة خلقه محمد صلى الله عليه وسلم والذي لم يترك خيراً إلا ودل أمته عليه، فروى عنه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"(1)وروي عنه أيضاً أنه قال:"من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"(2)وإن من الحرمان أن نرى كثيراً من المسلمين يقضون هذه اللحظات والفرص النادرة فيما لا ينفعهم، فإذا جاء وقت القيام كانت أحوالهم ما بين:

(أ) نائمون.

(ب) يتسامرون ويقعون في غيبة إخوانهم المسلمين.

(ج) يقضون أوقاتهم في المعاصي من مشاهدة القنوات الفضائية الهابطة، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات الرمضانية – كما يسمونها- وحاشا رمضان أن يكون له أفلام، أو مسلسلات مع ما فيها من اختلاط النساء بالرجال، والموسيقى، وما هو أشنع من ذلك.


لذلك لا بد من تجديد التوبة في هذا الشهر، فهذه فرصتنا للأسباب التالية:

أ. لأن مردة الشياطين تصفد، كما روى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً "أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"(3).

ب. الإقبال النفسي على فعل الخيرات في هذا الشهر ما لا تستطيعه في الأشهر الأخرى.

ج. أن الصوم في نهار رمضان يمنع من القيام بكثير من المعاصي.

ولو كان أمام أعيننا أنه قد يكون آخر رمضان نصومه لسهلت علينا التوبة، فكم من شخص مات قبل أن يبلغه، أما نحن فقد بلغناه الله عز وجل فلندعوه أن يعيننا على صيامه وقيامه.

مقارنة بين أعمارنا وأعمار الأمم السابقة:

قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه:"أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك"(4).

كان أعمار السابقين مئات السنين، فهذا نوح -عليه السلام- لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة".

فكيف يكون لنا السبق، ونحن أقل أعماراً؟! يكون ذلك باستغلال الفرص والتسابق عليها كما يتسابق الناس على الوظائف، والتسجيل في الجامعات، وعلى التخفيضات أيضاً.

ومن أعظم هذه الفرص، الحرص على ليالي العشر الأواخر من رمضان، فإن لم يكن، فعلى الأقل ليلة 21، 23، 25، 27، 29 لأن ليلة القدر لن تتعدى إحدى هذه الليالي كما قال صلى الله عليه وسلم:"تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان".

إلا إذا كان هناك اختلاف بين دول العالم الإسلامي في دخول رمضان، فإن الأحوط العمل كل ليالي العشر.

قال سبحانه وتعالى:"ليلة القدر خير من ألف شهر".

منذ أن يؤذن المغرب إلى أن يؤذن الفجر في الغالب لا يتجاوز 12 ساعة.

فكم سنة تعدل ليلة القدر؟ أكثر من ثلاث وثمانين سنة!! فلو حرصت كل الحرص على هذه الليلة فلا تفوتك، وذلك بقيام كل ليالي العشر الأخيرة، واستغلال كل ليلة منها كأحسن ما يكون الاستغلال كقدوتنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما روت عنه عائشة رضي الله عنها:"أنه إذا دخل العشر شد المئزر وأحيا ليله وأيقظ أهله".

ولنحسب عمر واحد منا حرص على القيام في ليالي الوتر لمدة عشر سنوات، إن هذا يساوي أكثر من 830 سنة بإذن الله، ولو عشت عشرين سنة بعد بلوغك، وكنت ممن يستغل كل ليالي العشر بالعبادة، لكان خير من 1660 سنة بإذن الله، وبهذا نحقق السبق يوم القيامة، وذلك باستغلال فرص لم تكن للأمم السابقة من اليهود والنصارى.

لذلك منذ أن يدخل شهر رمضان ادع الله أن يعينك ويوفقك لقيام ليلة القدر، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول.


ماذا تفعل في هذه الليلة؟

- الاستعداد لها منذ الفجر، فبعد صلاة الفجر تحرص على أذكار الصباح كلها، ومن بينها احرص على قول:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" مئة مرة، لماذا؟ لما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة كان له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك"(5).

الشاهد: "كانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي" حتى لا يدخل عليك الشيطان فيصرفك عن الطاعة.

- احرص على أن تفطر صائماً، إما بدعوته، أو بإرسال إفطاره، أو بدفع مال لتفطيره، وأنت بهذا العمل تكون حصلت على أجر صيام شهر رمضان مرتين لو فطرت كل يوم منذ أن يدخل الشهر إلى آخره صائماً لما رواه زيد بن خالد الجهني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"من فطر صائماً كتب له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء"(6).

- عند غروب الشمس ادع أيضاً أن يعينك ويوفقك لقيام ليلة القدر.

- جهز صدقتك لهذه الليلة من ليالي العشر، وليكن لك ادخار طوال السنة لتخريجه في هذه الليالي الفاضلة فلا تفوتك ليلة من ليالي الوتر إلا وتخرج صدقتها، فالريال إذا تقبله الله في ليلة القدر قد يساوي أكثر من ثلاثين ألف ريال، و 100 ريال تساوي أكثر من 300 ألف ريال وهكذا، وقد روى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه(7)، حتى تكون مثل الجبل"(8) وروى أبو هريرة أيضاً قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال:" أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان"(9).

فإن أخفيتها كان أعظم لأجرك فتدخل بإذن الله ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، لما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" (10).

- منذ أن تغرب الشمس احرص على القيام بالفرائض والسنن، فمثلاً منذ أن يؤذن ردد مع المؤذن ثم قل: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، فمن قال ذلك غُفر له ذنبه كما روي عنه صلى الله عليه وسلم مرفوعاً(11) ثم قل: اللهم رب هذه الدعوة التامة... إلخ، لما رواه جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة"(12).

- ثم بكر بالفطور احتساباً، وعند تقريبك لفطورك ليكن رطباً محتسباً أيضاً، ولا تنس الدعاء في هذه اللحظات، وليكن من ضمن دعائك: اللهم أعني ووفقني لقيام ليلة القدر، ثم توضأ وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بادر بالنافلة بين الأذان والإقامة؛ لما رواه أنس -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السواري حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء"(13). ثم صل صلاة مودع(14)كلها خشوع واطمئنان، ثم اذكر أذكار الصلاة، ثم صل السنة الراتبة، ثم اذكر أذكار المساء -إن لم تكن قلتها عصراً- ومنها "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" مئة مرة؛ لتكون في حرز من الشيطان ليلتك هذه حتى تصبح، كما سبق أن ذكرنا، ثم نوِّع في العبادة:

- لا يفتر لسانك من دعائك بـ "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".

- إن كان لك والدان فبرهما وتقرب منهما، واقض حوائجهما وافطر معهما.

- ثم بادر بالذهاب إلى المسجد قبل الأذان، لتصلي سنة دخول المسجد، ولتتهيأ بانقطاعك عن الدنيا ومشاغلها علك تخشع في صلاتك، ثم إذا أذن ردد معه وقل أذكار الأذان ثم صل النافلة، ثم اذكر الله حتى تقام الصلاة، أو اقرأ في المصحف، واعلم أنك ما دمت في انتظار الصلاة فأنت في صلاة كما روى ذلك أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"إن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تقول اللهم اغفر له وارحمه، ما لم يقم من صلاته أو يحدث"(15).

- ثم إذا أقيمت الصلاة صل بخشوع، فكلما قرأ الإمام آية استشعر قراءته، وكن مع كلام ربك حتى ينصرف الإمام.

- ثم عد إلى بيتك، ولا يكن هذا هو آخر العهد بالعبادة حتى صلاة القيام، بل ليكن في بيتك أوفر الحظ والنصيب من العبادة سواء بالصلاة أو بغيرها.

- ولا تنس -قبل خروجك من المسجد- أن تضع صدقة هذه الليلة، وإذا كان يصعب عليك إخراج صدقة كل ليلة من هذه الليالي فمن الممكن أن تعطي كل صدقتك قبل رمضان أو قبل العشر الأواخر جهة خيرية توكلها بإخراج جزء منها كل ليلة من ليالي العشر.

- ولا تنس وأنت في طريقك من وإلى المسجد أن يكون لسانك رطباً من ذكر الله، ولا تنس سيد الاستغفار هذه الليلة:"اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال صلى الله عليه وسلم:"من قاله فمات من يومه أو ليلته دخل الجنة"(16)، وما بين تهليل وتسبيح وتحميد وتكبير وحوقلة؛ لما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله"(17)وما بين صلاة على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، فإذا دخلت بيتك تلمَّس حاجة من هم في البيت، سواء والداك أو زوجتك أو إخوانك أو أطفالك، فقم بخدمة الجميع بانشراح الصدر واحتساب واستغل القيام بحوائجهم بقراءة القرآن عن ظهر قلب، فقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن في الأجر، كما روى أبو الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قال:"وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: قل هو الله أحد ثلث القرآن"(18). فإذا قرأتها ثلاث مرات حصلت على أجر قراءة القرآن كاملاً، ولكن ليس معنى هذا هجر القرآن، ولكن هذا له أوقات وهذا له أوقات، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن في الأجر(19)، وآية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، أخرجه سعيد بن منصور في سننه، كما قاله عبد الله موقوفاً، ثم قل:" لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" مئة مرة؛ ليكون لك عدل عشر رقاب، ولتكتب لك مئة حسنة، وتمحى عنك مئة سيئة، ولتكن حرزاً لك من الشيطان حتى تصبح ولم يأت بأفضل مما جئت به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، واحرص على كل ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- من الأذكار ذات الأجور العظيمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمه:"ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملء ما خلق، الحمد لله عدد ما في السموات والأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، الحمد لله ملء ما أحصى كتابه، الحمد لله عدد كل شيء والحمد لله ملء كل شيء وتسبح مثلهن، ثم قال: تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك"(20) وقال صلى الله عليه وسلم:"من قال سبحان الله وبحمده مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"(21)وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه"(22)وفي بعض الروايات "سبحان الله العظيم وبحمده مئة مرة" (23)وكلما ذُكرت الكفارة أو الغفران – غفران الذنوب- وحط الخطايا، فالمقصود بها الصغائر، أما الكبائر فلا بد من التوبة، أما إن كانت هذه الكبيرة متعلقة بحقوق الآدميين فلا بد من الاستحلال مع التوبة أو المقاصة يوم القيامة؛ لما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-:"من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"(24)ولا يغرك في الغيبة ما يردده البعض أن كفارة من اغتبته أن تستغفر له، فهذا حديث أقل أحواله أنه شديد الضعف، وهو يعارض الحديث السابق الصحيح، ومن أعظم حقوق الآدميين: الغيبة والنميمة والسخرية، والاستهزاء والسب، والشتم وشهادة الزور، قال صلى الله عليه وسلم:"الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (25).

فإذا فرغت من خدمة الجميع والأعمال البدنية، ليكن لك جلسة مع كتاب ربك فتقرأه، وليكن لك قراءتان في شهر رمضان إحداهما سريعة "الحدر" والأخرى بتأمل مع التفسير إذا أشكل عليك آية، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه:"لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله.

فإذا أنهك جسدك فألقه على السرير وأنت تذكر ربك بالتهليل والتسبيح والتحميد والحوقلة والتكبير والاستغفار والصلاة والسلام على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

- فإن نمت فأنت مأجور -بإذن الله- ثم استيقظ لصلاة قيام الليل في المسجد، وليكن لك ساعة خلوة مع ربك ساعة السحر فتفكر في عظمة خالقك، ونعمه التي لا تحصى عليك مهما كنت فيه من حال أو شدة فأنت أحسن حالاً ممن هو أشد منك كما قال صلى الله عليه وسلم:"انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلا من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله"(26).

- وتذكر هادم اللذات علها تدمع عينك فتكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما قال صلى الله عليه وسلم:"ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.." (27).

- وتذكر ما رواه جابر بن سمرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"أتاني جبريل، فقال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين. فقلت: آمين..." (28) الحديث. فهذه العشر هي والله الغنيمة الباردة، وفي هذا الشهر فرص ومواسم من لم يستغلها تذهب ولا ترجع..

- أخيراً وقبيل الفجر لا بد من السحور ولو بماء، مع احتساب العمل بالسنة؛ لما رواه أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم:"تسحروا فإن في السحور بركة"(29) ثم تسوك وتوضأ واستعد لصلاة الفجر وأنت إما في ذكر أو دعاء أو قراءة قرآن.


- ولا بد من التنبيه على بعض الأخطاء، ومنها:

1- أن البعض قد يشيع في ليلة 23 أو 25 أن فلاناً رأى رؤياً، وأن تعبيرها أن ليلة القدر مثلاً ليلة 21 أو 23. فماذا يفعل البطالون؟ يتوقفون عن العمل باقي ليالي العشر، حتى أن البعض قد يكون في مكة فيعود، لماذا؟ انقضت ليلة القدر في نظره. وفي هذا من الأخطاء ما فيها، ومنها: أن هذا قد يكون حلماً وليس رؤياً. أن المعبر حتى وإن عبرها بأنها ليلة 21 أو 23 أو غيرها ليس بشرط أن يكون أصاب، فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- عبر رؤيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"(30) فإذا كان أبو بكر وهو خير الخلق بعد الأنبياء يصيب ويخطئ، فما بالك بغيره. والذي يظهر لي أن هذا من تلبيس إبليس، ليصد المؤمنين عن العمل باقي ليالي العشر. والله أعلم.

وأخيراً.. الأيام معدودة، والعمر قصير، ولا تعلم متى يأتيك الأجل، ولا تدري لعلك لا تبلغ رمضان، وإن بلغته لعلك لا تكمله، وإن أكملته لعله يكون آخر رمضان في حياتنا.

فهذا يخرج من بيته سليماً معافى فينعى إلى أهله، وهذا يلبس ملابسه ولا يدري هل سينزعها أم ستنزع منه؟

لذلك كله علينا أن نستحضر هذه النعمة العظيمة أن بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه وصالح الأعمال، فكم من شخص مات قبل أن يبلغه، وكم من مريض مر عليه رمضان كغيره من الشهور، وكم من عاص لله ضال عن الطريق المستقيم ما ازداد في رمضان إلا بعداً وخساراً، وأنت يوفقك الله للصيام والقيام، فاحمد الله على هذه النعمة الجليلة، واستغلها أيما استغلال.


-----------------------------------------------------------

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (ك صلاة التراويح ب 1 فضل ليلة القدر 2/709 ح (1910).

(2) أخرجه البخاري في صحيحه (ك الإيمان ب 6 تطوع قيام رمضان من الإيمان 2/22 ح (37).

(3) أخرجه النسائي في سننه الصغرى (ك الصيام ب فضل شهر رمضان ص 336 ح (2106).

(4) أخرجه ابن حبان في صحيحه (ك الجنائز، فصل في أعمار هذه الأمة 7/246 ح (2980).

(5) أخرجه البخاري في صحيحه (ك بدء الخلق ب 11 صفة إبليس وجنوده ص 266 ح (3293).

(6) أخرجه ابن حبان في صحيحه (ك الصوم ب فضل الصوم، ذكر تفضيل الله جل وعلا بإعطاء المفطر المسلم مثل أجره 8/216 ح (3429).

(7) فرسه.

(8) أخرجه البخاري في صحيحه (ك الزكاة ب الصدقة من كسب طيب ص 111 ح (1410).

(9) أخرجه البخاري في صحيحه (ك الزكاة ب 11 فضل صدقة الشحيح الصحيح ص 111 ح (1419).

(10) أخرجه البخاري في صحيحه (ك الزكاة ب 16 الصدقة باليمين ص 112 ح (1423).

(11) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (ك الصلاة ب 62 فضيلة الشهادة لله عز وجل بوحدانيته 1/220 ح (421).

(12) أخرجه البخاري في صحيحه (ك الآذان ب الدعاء عند النداء 1/222 ح (589).

(13) أخرجه البخاري في صحيحه (ك الأذان ب 14 كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر إقامة الصلاة ص 50 ح (625).

(14) ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/244 ح (3670) وعزاه لأبي محمد الإبراهيمي في كتاب الصلاة، ولابن النجار من رواية ابن عمر وحكم عليه بأنه حسن.

(15) أخرجه البخاري في صحيحه (ك بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه 3/1180 ح (3057).

(16) أخرجه البخاري في صحيحه (ك الدعوات ب أفضل الاستغفار 5/2323 ح (5947).

(17) أخرجه ابن حبان في صحيحه باب الأذكار، ذكر البيان بأن الكلمات التي ذكرناها مع البشرى من الحول والقوة إلا بالله مع الباقيات الصالحات 3/121 ح 840 .

(18) أخرجه مسلم في صحيحه.

(19) أخرجه الترمذي.

(20) ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (2612).

(21) أخرجه مسلم في صحيحه ح (2691).

(22) أخرجه مسلم في صحيحه ح (2692).

(23) ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (6301).

(24) أخرجه البخاري في صحيحه ح (2449).

(25) أخرجه مسلم في صحيحه ح (552).

(26) أخرجه مسلم في صحيحه (7430).

(27) أخرجه البخاري في صحيحه ح (660) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(28) ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (75).

(29) أخرجه البخاري في صحيحه ح (1923).

(30) أخرجه البخاري في صحيحه ح (7046).




العشر الأواخر

 






العشر الأواخر


محمد الجابري


 

هاهي العشر الأواخر من رمضان على الأبواب ، ها هي خلاصة رمضان ،و زبدة رمضان ، و تاج رمضان قد قدمت .

فيا ترى كيف نستقبلها ؟

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يخص هذه العشر الأواخر بعدة أعمال .

ففي الصحيحين من حديث عائشة : ( كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لفظ لمسلم : ( أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لها عند مسلم : ( كان رسول الله يجتهد في العشر ما لا يجتهد غي غيرها )

و لها في الصحيحين : ( أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ).

و في الصحيحين من حديث أبي هريرة :( نهى رسول الله عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله ؟

قال : و أيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني ).


فمن هذه الأحاديث نرى أن النبي كان يجتهد بالأعمال التالية :

1- أيقاظ أهله : و ما ذاك إلا شفقة و رحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في هذه الليالي العشر .

2- إحياء الليل : فإنه إذا كان رمضان كان يقوم و ينام ، حتى إذا ما دخلت العشر الأواخر أحيا الليل كله أو جله ، فقد أخرج أصحاب السنن بإسناد صحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه : (صمنا مع رسول الله في رمضان فلم يقم بنا شيئا منه حتى بقي سبع ليال ، فقام بنا السابعة حتى مضى نحو من ثلث الليل ، ثم كانت التي تليها ... حتى كانت الثالثة فجمع أهله و اجتمع الناس فقام حتى خشينا الفلاح . فقلت : و ما الفلاح ؟ قال : السحور .

3- شد المئزر : و المراد به اعتزال النساء كما فسره سفيان الثوري و غيره .

4- الاعتكاف : و هو لزوم المسجد للعبادة و تفريغ القلب للتفكر و الاعتبار .

5- الوصال : وهو أنه صلى الله عليه و سلم كان لا يأكل شيئا أبدا لمدة أيام وهذا من خصائصه .ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم ، فقيل : إنك تواصل ، فقال : ((إني لست مثلكم إني أُطعم و أُسقى)) ، ولهما من حديث أبي هريرة (( و أيكم مثلي ، إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني)) و عند مسلم من حديث أنس (( أن النبي نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا ، واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : ( لو تأخر لزتكم ) كالمنكل لهم .وفي لفظ عند مسلم (( لو مد الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ..)) فمن هذه الأحاديث نعلم أن الرسول كان يواصل الصيام في العشر الأواخر بدليل أنهم رأوا الهلال و هذا لا يكون إلا في آخر الشهر . وأيضا شدة حرص الصحابة على الإقتداء به . وأيضا أن المراد بالإطعام و السقاء ليس هو طعام وسقاء حقيقي(( بل المراد ما يغذيه الله لنبيه من معارف و ما يفيض على قلبه من لذة مناجاته و قرة عينه بقربه و تنعمه بحبه و الشوق إليه و توابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب و نعيم الروح و قرة العين و بهجة النفوس و الروح و القلب بما هو أعظم غذاء و أجوده و أنفعه حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمن و كما قيل


لها أحاديث من ذكرك تشغلها *** عن الشراب و تلهيها عن الزاد

لها بوجهك نور تستضيء به *** و من حديثك في أعقابها حادي

إذا شكت من كلال السير أوعدها *** روح القدوم فتحيا عند ميعاد


و من له أدنى تجربة و شوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب و الروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، و لا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه ، و تنعم بقربه ، و الرضى عنه ، و ألطاف محبوبه و هداياه و تحفه تصل إليه كل وقت ، ومحبوبه حفي به ، معتنٍ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له ، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا أجل منه و أعظم ، و لا أجمل و لا أكمل و لا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، و ملك حبه جميع أجزاء قلبه و جوارحه و تمكن حبه منه أعظم تمكن ، وهذا حاله مع حبيبه ، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه و يسقيه ليلا و نهارا ؟ و لهذا قال (( إني أظل عند ربي يطعمني و يسقيني )) و لو كان ذلك طعاما و شرابا للفم ، لما كان صائما فضلا عن كونه مواصلا )) اهـ . كلام ابن القيم من الزاد


ترى أيه الأحبة : لماذا يفعل رسول الله كل هذا ؟

إنه يطلب تلك الليلة الزاهية ، تلك الليلة البهية ، ليلة القدر ، ليلة نزول القرآن ، ليلة خير من ألف شهر .

نعم إنها ليلة القدر : التي من قامها إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (كما في البخاري من حديث أبي هريرة ).

إنها ليلة القدر التي إن وفقت لقيامها كتب لك كأنك عبدت الله أكثر من ( 83 ) عاما .

إنها ليلة القدر : ليلة عتق و مباهاة ، وخدم و مناجاة ، و قربة و مصافاة .

وآه لنا أن فاتتنا هذه الليلة .

وا حسرتاه إن فاتتنا ليلة القدر .

و كيف لا يتحسر من قد فاتته المغفرة ،من فاته عبادة أكثر من ثلاث و ثمانين عاما ، إن من تفوته فهو المحروم ، وهو المطرود .

عند ابن ماجة ( قال في صحيح الترغيب و الترهيب : حسن ) ( إن هذا الشهر قد حضركم فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرمها فقد حرم الخير كله ، ولا يحرم خيرها إلا محروم )

إنها ليلة القدر التي كان رسولنا يحث الصحابة على التماسها حثا شديدا .


أيه الأحبة :

إن إدراك ليلة القدر- و الله - لهو أمر سهل – على من سهل الله عليه – و ما ذاك ألا بأن نقوم العشر الأواخر كلها و بهذا نضمن إدراك ليلة القدر بإذن الله .


أيه الأحبة :

أن قيام الليل هو دأب الصالحين و شعار المتقين و تاج الزاهدين ، كم وردت فيه من آيات و أحاديث ، وكم ذكرت فيه من فضائل ، فكيف إذا كان في رمضان ، وفي العشر الأواخر منه حيث ليلة القدر .

ماذا فاته من فاته قيام الليل ، أما لكم همة تنافسون الحسن و الفضيل و سفيان .

أما لكم همة كهمة التابعي أبي إدريس الخولاني حيث كان يقوم حتى تتورم قدماها و يقول : و الله لننافسن أصحاب محمد على محمد صلى الله عليه وسلم و حتى يعلموا أنهم خلفوا ورآهم رجالا .


يا أيه الراقد كم ترقد *** قم يا حبيبا قد دنا الموعد

و خذ من الليل و ساعاته *** حظا إذا هجع الرقد

من نام حتى ينقي ليله *** لم يبلغ المنزل أو يجهد

قل لذوي الألباب أهل التقى *** قنطرة العرض لكم موعد


آه يا مسكين لو رأيت أقواما تركوا لذيذ النوم ففازوا بليلة القدر فهم في قبورهم منعمين ، وغدا بين الحور العين جذلين ، وفي الجنان مخلدين .

آه لو رأيت من ترك قيام الليل ، فهو في قبره ما بين حسرة و لوعة .

يا عبد الله اهجر فراشك ، فإن الفرش غدا أمامك


اهجر فراشك جوف الليل و ارم به *** ففي القبور إذا فوافيتها فرش

ما شئت إن شئتها فرشا مرقشة *** أو رمضة فوقها السمومة الرقُشُ( الأفاعي )

هذا ينام قرير العين نائما *** و ذا عليه سخين العين ينتهش

شتان بينهما وبين حالهما *** هل يستوي الري في الأحشاء و العطش

قاموا و نمنا و كل في تقلبه *** لنفسه جاهدا يسعى و يجتوش

ألئك الناس إن عد الكرام فهم *** و إن ترد دبشا فنحن ذا دبش


فيا عبد الله

إن أردت لحاق السادة ، فاترك مخاللة الوسادة .


يا ثقيل النوم : أما تنبهت ، الجنة فوقك تزخرف ، و النار تحتك توقد ، و القبر إلى جنبك يحفر ، و لربما يكون الكفن قد جهز .


يا عبد الله :

أمامك الجواهر و الدرر، أمامك ليلة القدر ، فعلاما تضيع الأعمار في الطين و المدر .


يا طويل النوم :

بادر قبل أن يفوتك ( تتجافى جنوبهم ) فتأتي يوم القيامة فلا تجد ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ).


فيا أخي : و الله أن العمر كله قصير ، فكيف بعشر ليال .

آلا تستحق ليلة القدر أن نضحي من أجلها بعشر ليال فقط .

غدا يا عبد الله عندما يوفى الناس أعمالهم تحمد قيامك و صيامك .

غدا يا عبد الله تفرح بتهجدك و صلاتك ، حين يتحسر أهل الغفلة .

اللهم إنا نسأل أن تجعلنا من من يوفق قيام لليلة القدر و أنت أكرم الأكرم .


و كتبه

محمد الجابري

 


العشرة الأواخر والدعاء

 







العشرة الأواخر والدعاء


إبراهيم بن محمد الحقيل


 

الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .


أما بعد : فعندما تنزل الحاجة بالعبد فإنه ينزلها بأهلها الذين يقضونها ، وحاجات العباد لا تنتهي . يسألون قضاءها المخلوقين ؛ فيجابون تارة ويردون أخرى . وقد يعجز من أنزلت به الحاجة عن قضائها . لكن العباد يغفلون عن سؤال من يقضي الحاجات كلها؛ بل لا تقضى حاجة دونه ، ولا يعجزه شيء ، غني عن العالمين وهم مفتقرون إليه . إليه ترفع الشكوى ، وهو منتهى كل نجوى ، خزائنه ملأى ، لا تغيضها نفقه ، يقول لعباده { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}

كل الخزائن عنده ، والملك بيده { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[ الملك] {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }[ الحجر ] ، يخاطب عباده في حديث قدسي فيقول : (( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أًدخل البحر )) [ رواه مسلم 2577] ويقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }[ فاطر] .

لا ينقص خزائنه من كثرة العطايا ، ولا ينفد ما عنده ، وهو يعطي العطاء الجزيل { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96] قال النبي عليه الصلاة والسلام (( يدُ الله ملأى لا تغيضها نفقه سحاءُ الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع )) [ رواه البخاري 684 ومسلم 993] .

هذا غنى الله ، وهذا عطاؤه ، وهذه خزائنه ، يعطي العطاء الكثير ، ويجود في هذا الشهر العظيم ؛ لكن أين السائلون ؟ وأين من يحولون حاجاتهم من المخلوقين إلى الخالق ؟ أين من طرقوا الأبواب فأوصدت دونهم ؟ وأين من سألوا المخلوقين فرُدوا ؟ أين هم ؟ دونكم أبواب الخالق مفتوحةً ! يحب السائلين فلماذا لا تسألون ؟ .


لماذا الدعاء ؟!


لا يوجد مؤمن إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه ، وأنه تعالى يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ويرزق من يشاء بغير حساب ، وأن خزائن كل شيء بيده ، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه ، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه . لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله ؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن ، قال الله تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 107] .

نعم والله لا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى { إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53]

{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67] سقطت كل الآلهة ، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ }[ الإسراء : 67] {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } [الفتح :11]

لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله . ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا . ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبرته تتردد في صدره ، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله . ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى }[طه:8] يغضب إذا لم يُسأل ، ويحب كثرة الإلحاح والتضرع ، ويحب دعوة المضطر إذا دعاه ، ويكشف كرب المكروب إذا سأله {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }[النمل:62] .

روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟)) [ رواه البخاري 7494 ومسلم 758]

الله أكبر ، فضل عظيم ، وثواب جزيل من رب رحيم ، فهل يليق بعد هذا أن يسأل السائلون سواه ؟ وأن يلوذ اللائذون بغير حماه ؟ وأن يطلب العبادُ حاجاتهم من غيره ؟ أيسألون عبيداً مثلهم ، ويتركون خالقهم ؟! أيلجأون إلى ضعفاء عاجزين ، ويتحولون عن القوي القاهر القادر ؟! هذا لا يليق بمن تشرف بالعبودية لله تعالى ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (( من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته ، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل )) [ رواه أبو داود 1645والترمذي وصححه 2326 ] .


فضل الدعاء


إن الدعاء من أجلِّ العبادات ؛ بل هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك لأن فيه من ذلِّ السؤال ، وذلِّ الحاجة والافتقار لله تعالى والتضرع له ، والانكسار بين يديه ، ما يظهر حقيقة العبودية لله تعالى ؛ ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (( ليس شيء أكرم على الله من الدعاء )) [ رواه الترمذي وحسنه 3370 وابن ماجه 3829] .

وإذا دعا العبد ربه فربه أقربُ إليه من نفسه { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186] ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى : (( في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر كما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد )) [رواه ابن ماجه 1753 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/ 328 ] دعوةٌ عند الفطر ما ترد ، ودعاء في ثلث الآخر مستجاب ، وليلةٌ خير من ألف شهر ، فالدعاء فيها خير من الدعاء في ألف شهر . ما أعظمه من فضل ! وأجزله من عطاء في ليالٍ معدودات . فمن يملك نفسه وشهوته ، ويستزيد من الخيرات ، وينافس في الطاعات ، ويكثرُ التضرع والدعاء .


ليالي الدعاء


نحن نعيش أفضل الليالي ، ليالٍ تعظُم فيها الهبات ، وتنزل الرحمات ، وتقال العثرات ، وترفع الدرجات .

فهل يعقل أن تقضى تلك الليالي في مجالس الجهل والزور ، وربُ العالمين ينزل فيها ليقضي الحوائج . يطلع على المصلين في محاريبهم ، قانتين خاشعين ، مستغفرين سائلين داعين مخلصين، يُلحون في المسألة ، ويرددون دعاءهم : ربنا ربنا . لانت قلوبهم من سماع القرآن ، واشرأبت نفوسهم إلى لقاء الملك العلام ، واغرورقت عيونهم من خشية الرحمن . فهل هؤلاء أقرب إلى رحمة الله وأجدر بعطاياه أم قوم قضوا ليلهم فيما حرم الله ، وغفلوا عن دعائه وسؤاله؟ كم يخسرون زمن الأرباح ؟ وساء ما عملوا ؟ ما أضعف هممهم ، وما أحط نفوسهم ، لا يستطيعون الصبر ليالي معدودات !!


من يستثمر زمن الربح ؟!


هذا زمن الربح ، وفي تلك الليالي تقضى الحوائج ؛ فعلق – أخي المسلم – حوائجك بالله العظيم ، فالدعاء من أجل العبادات وأشرفها ، والله لا يخيب من دعاه قال سبحانه : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60] وقال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55} وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[ الأعراف :56] .


العلاقة بين الصيام والدعاء


آيات الصيام جاء عقبها ذكرُ الدعاء { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186] قال بعض المفسرين : (( وفي هذه الآية إيماءٌ إلى أن الصائم مرجو الإجابة ، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته ، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان )) [ التحرير والتنوير 2/179] والله تعالى يغضب إذا لم يسأل قال النبي عليه الصلاة والسلام (( من لم يسأل الله يغضب عليه )) [ رواه أحمد 2/442 والترمذي 3373 ] .


الله تعالى أغنى وأكرم


مهما سأل العبد فالله يعطيه أكثر ، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن تعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذاً نكثر ، قال : الله أكثر )) [ رواه أحمد 3/18].

والدعاء يرد القضاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (( لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر )) [ رواه الترمذي وحسنه 2139 والحاكم وصححه 1/493] . وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام : (( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء )) [ رواه أحمد 5/234 والحاكم 1/493] فالله تعالى أكثر إجابة ، وأكثر عطاءً .


الذل لله تعالى حال الدعاء


إن الدعاء فيه ذلٌ وخضوع لله تعالى وانكسار وانطراح بين يديه ، قال ابن رجب رحمه الله تعالى : وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه ويمد يديه كحال السائل ، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار ، ومن افتقار القلب في الدعاء ، وانكساره لله عز وجل ، واستشعاره شدة الفاقةِ ، والحاجة لديه . وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابة الدعاء ، قال الأوزاعي : كان يقال : أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه )) [ الخشوع في الصلاة ص72] .


أيها الداعي : أحسن الظن بالله تعالى


والله تعالى يعطي عبده على قدر ظنه به ؛ فإن ظن أن ربه غني كريم جواد ، وأيقن بأنه تعالى لا يخيب من دعاه ورجاه ، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاء الله تعالى كل ما سأل وزيادة ، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني )) [ رواه البخاري 7505 ومسلم 2675] .


الدعاء في الرخاء من أسباب الإجابة


إذا أكثر العبدُ الدعاء في الرخاء فإنه مع ما يحصل له من الخير العاجل والآجل يكون أحرى بالإجابة إذا دعا في حال شدته من عبد لا يعرف الدعاء إلا في الشدائد . روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء )) [ رواه الترمذي وحسنه 3282 والحاكم وصححه 1/ 544] .

ومع أن الله تعالى خلق عبده ورزقه ، وأنعم عليه وهو غني عنه ؛ فإنه تعالى يستحي أن يرده خائباً إذا دعاه ، وهذا غاية الكرم ، والله تعالى أكرم الأكرمين .

روى سلمان رضي الله عنه فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خالتين )) [ رواه أبو داود 1488والترمذي وحسنه 3556] .


العبرة بالصلاح لا بالقوة


قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته ؛ لكنه عزيز على الله تعالى لا يرد له سؤالاً ، ولا يخيب له دعوة ، كالمذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم (( رب أشعث مدفوع ٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره )) [ رواه مسلم 2622] .


أيها الداعي : لا تعجل


إن من الخطأ أن يترك المرء الدعاء ؛ لأنه يرى أنه لم يستجب له ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي )) [ رواه البخاري 6340 ومسلم 2735] .

قال مُورِّقٌ العجلي : (( ما امتلأت غضباً قط ، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء )) [ نزهة الفضلاء ص 398] .

وكان السلف يحبون الإطالة في الدعاء قال مالك : (( ربما انصرف عامر بن عبد الله بن الزبير من العتمة فيعرض له الدعاء فلا يزال يدعو إلى الفجر ))[ نزهة الفضلاء 484] . ودخل موسى بن جعفر بن محمد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدة في أول الليل فسمع وهو يقول في سجوده : (( عظمُ الذنبُ عندي فليحسن العفو عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة ، فما زال يرددها حتى أصبح )) [ نزهة الفضلاء 538] .


الصيغة الحسنة في الدعاء


ينبغي – أيها المسلم – أن تقتفي أثر الأنبياء في الدعاء ، سئل الإمام مالك عن الداعي يقول : يا سيدي فقال : (( يعجبني دعاء الأنبياء : ربنا ربنا )) [ نزهة الفضلاء 621] .


هذه أيام الدعاء


هذا بعض ما يقال في الدعاء ، ونحن في أيام الدعاء وإن كان الدعاء في كل وقت ؛ لكنه في هذه الأيام آكد ؛ لشرف الزمان ، وكثرة القيام . فاجتهد في هذه الأيام الفاضلة فلقد النبي صلى الله عليه وسلم يشد فيها مئزره ، ويُحيي ليله ، ويوقظ أهله . كان يقضيها في طاعة الله تعالى ؛ إذ فيها ليلة القدر لو أحيا العبد السنة كلها من أجل إدراكها لما كان ذلك غريباً أو كثيراً لشرفها وفضلها ، فكيف لا يُصبِّر العبد نفسه ليالي معدودة .


فاحرص – أخي المسلم – على اغتنام هذه العشر ، وأر ِ الله تعالى من نفسك خيراً . فلربما جاهد العبدُ نفسه في هذه الأيام القلائل فقبل الله منه ، وكتب له سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وهي تمرُّ على المجتهدين واللاهين سواء بسواء ؛ لكن أعمالهم تختلف ، كما أن المدون في صحائفهم يختلف ، فلا يغرنك الشيطان فتضيع هذه الأيام كما ضاع مثيلاتها من قبل .


أسأل الله تعالى أن يتولانا بعفوه ، وأن يرحمنا برحمته ، وأن يستعملنا في طاعته ، وأن يجعل مثوانا جنته ، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .


إبراهيم بن محمد الحقيل



العشر المباركات

 







العشر المباركات 


د.محمد بن عدنان السمان 

@alsmman1



بسم الله الرحمن الرحيم



نحن في شهر عظيم ، ينعم الله به على عباده ويكرمهم بفضائل ومزايا تجعلهم من الله أقرب فالأجور مضاعفة والعبادات متنوعة .


وقد خص هذا الشهر العظيم بمزية ليست لغيره من الشهور وهي أيام عشرة مباركة هن العشر الأواخر، و إليكم مع هذه العشر المباركات هذه الوقفات :


الوقفة الأولى :


هذه العشر من أفضل ليالي العام إن لم تكن أفضلها على الإطلاق ، وقد كان لرسولنا صلى الله عليه وسلم عناية خاصة بها ، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يحرص على العبادة والطاعة في العشرين الأولى من شهر رمضان إلا أنه صلى الله عليه وسلم يزداد عبادة وتقرباً إلى ربه في هذه العشر الأواخر خاصة وهو صلى الله عليه وسلم لنا الأسوة والقدوة ، تجد ذلك الأمر حين تخبر زوجه عائشة رضي الله تعالى عنها فتقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله ، وأيقظ أهله ( متفق عليه ) زاد مسلم : وجد وشد المئزر .


وكانت تقول رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره ( رواه مسلم ) .


الوقفة الثانية :


هذه العشر أيها المبارك مجال رحب وواسع للتزود من هذا الخير المتمثل بتنوع العبادات والطاعات المتاحة للمسلم :


فمنها الصلوات المفروضات والمسنونات والصيام ومنها قيام الليل والذكر ومنها قراءة القرآن ومنها بل مما اختص بفضلها في هذه الأيام الاعتكاف، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين ) وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر، قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره والتقرب إليه ودعائه .


فإن لم يستطع المسلم أن يعتكف العشر كاملة فليحرص على الأوتار منها ، أو ليغلبن في أن يلبث شيئاً من الوقت في المسجد فقد عد ذلك بعض أهل العلم من الاعتكاف وفضل الله واسع وخيره كثير .


فليحرص أحدنا على الفرائض وعلى النوافل وليبشر فالبشرى جاءت من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما أخبر في الحديث القدسي عن ربه جل جلاله أنه قال: ( وما تقرب عبدي إلىّ بشيء، أحب إلى مما افترضته عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري .


الوقفة الثالثة :


اجتهد يارعاك الله في تحري ليلة القدر والاستعداد لها في هذه العشر فقد قال الله تعالى :{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)}(القدر). وألف شهر مقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر .


قال النخعي رحمه الله : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر .


ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .


وهذه الليلة المباركة في العشر الأواخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) متفق عليه .


وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) رواه البخاري .


وهي في السبع الأواخر أقرب , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر , فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي ) رواه مسلم .


وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته


قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر : وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل ...ا.هـ وللأمام النووي كلام في هذا المعنى.


قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها , بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها ...ا.هـ وعليه فاجتهد في قيام هذه العشر جميعاً وأكثر من الأعمال الصالحة فيها وستظفر بها يقيناً بإذن الله عز وجل .


ومن هذا المنطلق فلا يلتفت إلى ما يشاع كل عام أن فلان أو فلان رأها في المنام في ليلة يحددها فإن هذا المتحدث كأنه يقول للناس لا تقوموا إلا هذه الليلة ولا تعبدوا الله إلا في هذه الليلة وهذا تخرص واضح وادعاء ليس عليه دليل .


وإذا كانت أخفيت عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى أن تخفى عن غيره ، أخرج الامام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان . يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له . فلما انقضين أمر بالبناء فقوض . ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر . فأمر بالبناء فأعيد . ثم خرج على الناس . فقال :

( يا أيها الناس إنها كانت أبينت لي ليلة القدر وإني خرجت لأخبركم بها . فجاء رجلان يحتقان [أي يطلبان كل منهما حقه من صاحبه ويدعي أنه صاحب الحق ] معهما الشيطان . فنسيتها . فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان . التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ) .


قال أحد رواة الحديث قلت : يا أبا سعيد ! إنكم أعلم بالعدد منا . قال : أجل . نحن أحق بذلك منكم . قال قلت : ما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال : إذا مضت واحدة وعشرين فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة . فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة . فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة .


الوقفة الرابعة :


إن من المتأكدات استحباباً في هذه الأيام ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله .


فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، قال سفيان الثوري رحمه الله : أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك .


إن هذه العناية بأمر الزوجة والأهل و الأولاد تجعل من البيت المسلم يعيش في روحانية رمضان هذا الشهر الكريم عندما يقبل الأب والأم والبنين والبنات على الصلاة والعبادة والذكر وقراءة القرآن ، ولنحفزهم على ذلك الخير فمن دعا إلى هدى كان له من الخير والأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً .



 


فضل العشر الأواخر من رمضان من كتاب لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله

    بسم الله الرحمن الرحيم فضل العشر الأواخر من رمضان من كتاب لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى  :...